ربما تكون الجسميات التي تشكل ما يعرف بـ "المادة المظلمة"، والتي لم نستطع رؤيتها بعد، قد ساهمت في تشكيل هذا الكون الشاسع الذي نعيش فيه. ومازال العلماء يبذلون قصارى جهدهم لإثبات وجود تلك الجسيمات، وما نتج عنها من "نجوم مظلمة".
تأمّل كل ما ندرك وجوده في هذا الكون، بدءًا من الأفران الكونية الضخمة مثل الشمس في مجموعتنا الشمسية، ومرورًا بالكواكب الضخمة التي يغلب على تكوينها الغازات، والتي يبدو كوكب الأرض قزمًا مقارنة بها.
وتأمل كذلك الكويكبات التي تندفع في حزام الكويكبات عبر الفضاء، وأخيرًا النجوم الأبعد؛ تلك الشموس الوهاجة التي تبعد عن نجومنا آلاف السنوات الضوئية.
لكن كل هذا لا يمثل إلا خمسة في المئة من كتلة الكون، فماذا عن بقية كتلة الكون؟ لا يزال الغموض يكتنفها.
ثمة عنصرٌ واحدٌ قد يؤلف ما يصل إلى 25 في المئة من الكون، إلا أننا لا يمكننا أن نراه أو نشعر به، فهذا العنصر لا يتفاعل مع الضوء، ولا تدخل في تكوينة لبنات البناء الأساسية التي تدخل في تكوين كل المواد، أي الإلكترونات والبروتونات داخل الذرات.
هذا العنصر هو ما يعرف باسم "المادة المظلمة". ويحاول العلماء جاهدين منذ عقود الكشف عن ماهية هذه المادة. وكانت كاثرين فريز من بين هؤلاء العلماء الذين يسعون لحل لغز هذه المادة الغامضة التي تمثل لبنات بناء الكون.
فمنذ ثلاثين عامًا، أدت نظرياتها عن المادة الصمغية غير المرئية، التي أسهمت في تشكيل الكون، إلى بناء ما يعرف بمصادمِ الجسيمات (أو جهازِ تسارعِ حركةِ الجسيمات) تحت الأرض في نواح متفرقة من كوكبنا، كتلك الأجهزة الموجودة في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (سيرن).
لكن ما هي تلك الجسيمات التي يبحثون عنها؟ إنها الجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل التي تُسمى اختصارا (ويمب)، وبحسب فريز، فإن النجوم التي تتكون من هذه المادة المحيرة قد تكون ساعدت في تكوين الكون منذ مليارات السنين.
وتتميز الجسمات الضخمة ضعيفة التفاعل بأنها كبيرة الحجم، ولا تتفاعل مع القوى الكهرومغناطيسية، وهذا ما يجعلها "مظلمة"، أي لا يمكن رؤيتها بوسائل استشعار الموجات الكهرومغناطيسية التي ظلت البشرية تسبر بها أغوار الكون على مدار القرن الماضي.
وقد أسهمت النظرية التي تحمل اسم "التناظر الفائق"، والتي تفترض أن لكل جسيمٍ معروفٍ نظيرا مضادا، في التوصل إلى وجود فجوة في المعلومات التي نعرفها عن الجسيمات، ويبدو أن الجسيمات ضعيفة التفاعل هي التي ستسد هذه الفجوة.
هل ساهمت المادة المظلمة في تشكيل الكون؟
وتوجد هذه الجسيمات ضعيفة التفاعل في كل مكانٍ من حولنا، ولكنها لا تترك وراءها أي أثر، لأنها لا تتفاعل على الإطلاق مع الجسيمات المعتادة المحيطة بها.
وتقول فريز: "حسنا، إذا نظرت إلى كل ما يصادفك في حياتك اليومية، بداية من جسمك، والمقعد الذي تجلس عليه، والهواء الذي تتنفسه، والجدران التي تحيط بنا، أضف إلى ذلك الكواكب والنجوم، كل هذه الأشياء تتكون من ذرات، وهذا ما نفهمه، ولكن كل هذه المواد المكونة من ذرات لا تمثل إلا خمسة في المئة فقط من الكون. أليس هذا غريبًا!"
وأضافت فريز: "ولهذا، نريد أن نفهم ما الذي يشغل 95 في المئة من حجم الكون، حيث توجد المادة المظلمة وكذلك الطاقة المظلمة."
وتابعت: "عندما تمر هذه الأشياء خلال جسمك فلن تحدث تأثيرًا كبيرًا. وهناك بالفعل الملايين من هذه الجسيمات التي تمر حتمًا خلال جسمك كل ثانية وأنت لا تلاحظها بسبب شدة ضعفها".
وتشبه فريز المادة المظلمة بالرياح، التي على الرغم من أننا لا نراها مباشرة، لأنها غير مرئية، إلا أننا على يقين من أنها موجودةٌ لأن أوراق الشجر تتحرك أمامنا. وهذا ينطبق على المادة المظلمة، التي نرى أنها تجذب الأشياء من حولها، فهي في نهاية الأمر مادة، وهذا يعني أنها تتأثر بالجاذبية.
وتتجمع هذه المواد مع بعضها، وتشكل كتلة، وتجتذب الأشياء إليها. وبهذا نعرف أنها موجودةٌ، على الرغم من أننا لا نعرف تحديدا مم تتكون.
ولذا، فإذا كانت تلك الجسيمات ضعيفة التفاعل موجودة بالفعل، وهذا ما تعتقده فريز، فإنها جاءت إلى الوجود في أعقاب ما يعرف بـ "الانفجار العظيم".
وقد تقصّت فريز نظرية "الانفجار العظيم" التي تفسر نشأة الكون، بمساعدة عالمي الفيزياء الفلكية باولو غوندولو بجامعة يوتا، ودوغ سبوليار من جامعة ستوكهولم بالسويد. وكان هدفهم الرئيسي البحث عن أول "نجوم مظلمة" تكونت في الأيام الأولى لنشأة الكون.
وقد توهجت هذه النجوم المظلمة القديمة، على الرغم مما ينطوي عليه اسمها، بروعةٍ بسبب الطاقة الناتجة عن تصادم الجسيمات مع جسيمات المادة المضادة، مما ترتب عليه فناء المادة المظلمة. وربما بقي البعض منها في أقصى أطراف الكون، حيث يشع بشدة.
وتقول فريز: "يُفترض أن النجوم المظلمة كانت في البداية في ضخامة الشمس تقريبًا، وربما تكون قد ظلت تنمو حتى أصبحت تعادل مليون ضعف كتلة الشمس، وأكثر سطوعًا منها بمليار مرة".
وتضيف فريز: "ربما يتمكن التليسكوب الفضائي الأكبر، جيمس ويب، الذي يجري تشييده حاليًا، ويعد استكمالًا لتلسكوب هابل الفضائي الشهير، من اكتشاف النجوم المظلمة."
وتتابع: "والآن، إذا تمكنا من اكتشافها، فهذا لا يعني أننا وجدنا نوعا جديدا تماما من النجوم فحسب، وهو أمر في غاية الأهمية، بل أثبتنا أيضا أن الجسيمات ضعيفة التفاعل هي التي أدت إلى نشأة هذه النجوم. وبهذا تكون هذه الإشكالية قد حُلت أيضا".
وقد يعد هذا الاكتشاف مؤشرًا لقرب انتهاء أحد أصعب الإشكاليات التي حيرت العلماء في العصر الحديث. فقد ظل العلماء يحاولون الكشف عن ماهيةِ المادة المظلمة منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وأشار بعضهم إلى احتمال وجودها في سياقات مختلفة قبل هذا التاريخ.
وتقول فريز: "عندما درس الناس الشمس والكواكب التي تدور حولها، أدركوا أن الكواكب الموجودة في المركز تتحرك بسرعةٍ كبيرةٍ، وتتباطأ سرعةُ الكواكب كلما ابتعدت عن الشمس".